الاتجاهات العالمية للطاقة: هل من ثورة قيد التحضير؟

كارول نخلة, 08 نوفمبر/تشرين الثاني 2016

حركة التطور

 

تميّز تاريخ الاستهلاك العالمي للطاقة، لفترة طويلة، بهيمنة الوقود الواحد – أولَا الخشب ومن ثمّ الفحم وبعده النفط. ولطالما ترافق ذلك مع تغيير القوى الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية لمزيج الطاقة، وغالبًا بطرق لا يمكن التنبؤ بها حيث أنها دفعت عملية الانتقال من وقود مهيمن إلى آخر. أما اليوم، فيتمتّع مزيج الوقود في العالم بتنوّع أكبر بكثير من ذي قبل. ويبقى أحد الأسئلة الأساسية الذي يطرحه الكثيرون: كيف ستستمر حركة تطور مزيج الوقود في ظل القلق المتجدد حيال تغير المناخ؟

 

إذا ما نظرنا إلى السابق، نجد أن الفحم قد حيّد جانبًا طاقة تقليدية "متجددة" (الخشب) في تغذيته الثورة الاقتصادية في القرن التاسع عشر. ولم تنتهِ هيمنته إلى أن دخل النفط إلى الصورة؟  كاد اختراع المصباح الكهربائي، المستخدم في الأصل لأغراض طبية ("زيت الأفعى") وللإضاءة، أن يجعل من النفط مصدرًا مهملًا إلى أن جاءت تكنولوجيا تخريبية كبرى، وهي تستمر بتعريف المجتمعات الحديثة حتى يومنا هذا – ألا وهي محرك الاحتراق الداخلي. وفي الوقت ذاته، اكتسب النفط أهمية استراتيجية، فقد أمر ونستون تشرشل، في العام 1913، ومن بعده لورد الأميرالية، الأسطول البريطاني باستخدام النفط عوضًا عن الفحم.

 

وعلى مدى عقود من الزمن، استمتع العالم بإمدادات وفيرة ورخيصة من النفط. إلا أنّ أزمة النفط الأولى في العام 1973 جاءت بمثابة جرس إنذار، محذرة الدول المستهلكة حول المخاطر التي يتعرض لها الأمن بالاعتماد على مصدر وحيد للطاقة خارج عن سيطرتها.  كما أنّ الزيادة اللاحقة في أسعار النفط فأعطت قوة  دافعة جديدة للبحث عن موارد بديلة. وأصبح الغاز الطبيعي، الذي كان في البداية منتجًا ثانويًا غير مرغوب به، رائجًا بشكل متزايد، وبخاصة في قطاع الطاقة. كما برز شكل جديد كليًا من أشكال الطاقة – الطاقة النووية – وتوسع نطاقه على الرغم من أنه كان محصورًا في عدد صغير من الدول. ومع اشتداد المخاوف حول تغير المناخ، بدأت أشكال مختلفة من الطاقة المتجددة – ومعظمها من الرياح والطاقة الشمسية – باحتلال مراكز الصدارة في سياسات الطاقة في الكثير من البلدان (ومعظمها من البلدان الثرية)، ذلك إضافة إلى أحد مصادر الطاقة المتجددة الأقدم في العالم وهي الطاقة الكهرمائية.

 

أما اليوم، فيبدو مزيج الطاقة الأولية عالميًا أكثر تنوعًا وألوانًا من أي وقت مضى، إلا أنّ هيمنة الوقود الأحفوري ما زالت أكثر سمة بارزة فيها. حيث يمثل الفحم والنفط والغاز حصة مذهلة تصل إلى 86% من إجمالي استهلاك الوقود، فيما تتوزع النسبة المتبقية بين الطاقات المتجددة "القديمة"، أي الطاقة الكهرمائية (7%) والطاقات المتجددة "الجديدة"، أي  الرياح والطاقة الشمسية والوقود الأحيائي (3%)  والطاقة النووية (40%) (الرسم 1).[1] 

 

الرسم 1: مزيج الطاقة الأولية عالميًا (2016)

1-chart-carole.jpg

 

التوقعات

 

لقد سيطر القلق حيال الاحتباس الحراري العالمي، بالاقتران مع استحواذ تصور علامات مرئية ودراماتيكية لبدء تغير المناخ اليوم على الوعي الجماهيري. كذلك وضع قادة العالم والشخصيات الدينية على حد سواء مكافحة التغير المناخي في جوهر أنشطتهم. وفي اجتماعهم الذي عقد في العام 2015، دعا قادة مجموعة الدول السبع (G7) لتحقيق توليد الكهرباء الخالية من الكربون بحلول عام 2050 واقتصادات خالية من الوقود الأحفوري بحلول نهاية القرن. على سبيل المثال، نشر البابا فرانسيس رسالة بابوية تتعلق بالحماية البيئية، مما جعل من مكافحة تغير المناخ العالمي واجبًا دينيًا بالنسبة للكثيرين.

 

لتفادي الكارثة المناخية، تتطلب النظرية خفضًا جذريًا وفوريًا في حرق الوقود الأحفوري، المسؤول الرئيسي في ضخ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي والذي يسبب بتدفئة هذا الكوكب.

 

ولا شك أن قضية التغير المناخي هي قضية نبيلة تستحق المكافحة؛ إلا أن خوض هذه المعركة والخروج منها بربحٍ يتطلب معرفة الجدول الزمني المتّبع. وعلى الرغم من اختلاف المنهجية والافتراضات الواردة في منشورات مهمّة حول اتجاهات الطاقة المستقبلية، يبدو أنه ثمة اتفاق حول أن الوقود الأحفوري – من دون تقدم تقني مهم، واعتبارًا من اليوم، لا يمكن التنبؤ به – سيواصل هيمنته على مزيج الطاقة الأولية حتى حوالي عام 2040، وذلك بسبب عدم وجود بدائل رخيصة وعملية.

 

يستحوذ النفط اليوم على أكبر حصة بين كافة أنواع الوقود. هو يمدّنا بإمكانية التحرك كما يدفئ منازلنا ويبرّدها ويوفّر الكهرباء. ثمة الملايين من المنتجات المصنوعة من النفط، بما في المواد البلاستيكية والأدوية والملابس ومستحضرات التجميل والكثير من المواد الأخرى المستخدمة يوميًا. وبالتالي ليس من المستغرب أن نرى أن النفط ما زال مطلوبًا، وبخاصة في قطاع المواصلات، طالما أن البدائل غير موجودة من الناحية العملية.

 

يشهد تداول الغاز طبيعي تزايدًا، مدفوعًا بدرجة كبيرة من خلال واقع كونه، حتى الآن، الأنظف بين أنواع الوقود الأحفوري. عمليًا، لا ينتج الغاز الطبيعي المسوق تجاريًا أي  ثاني أكسيد الكبريت (SO2) كما أن مستويات انبعاثات أكاسيد النتروجين (NOx) التي تنبعث منه هي أقل بكثير من المستويات المنبعثة من النفط أو الفحم. إلا أن الأهم من ذلك، ومن منظور سياسات التغير المناخي، أن انبعاثات توليد الطاقة لثاني أكسيد الكربون لكل كيلو واط ساعة من الغاز الطبيعي هي أقل بنسبة 40%-50% من الانبعاثات الناجمة عن الفحم و25%-30% أقل من الانبعاثات الناجمة عن النفط. إضافة إلى ذلك، فإن القدرة الجديدة لتوليد الطاقة المحمية بالغاز باستخدام تقنية دورة غاز التوربين المتكاملة (CCGT) هي ليست أقل كثافة من ناحية الكربون وحسب؛ بل أن تلك المعامل أكثر فعالية وسرعة في البناء من تلك التي تعتمد على النفط أو الفحم كمادة أولية.

 

في المقابل، الفحم "وسخٌ"، مع نسب عالية من الكبريت ونسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منه أعلى منها من أي نوع آخر من الوقود. وبالتالي فإنه من غير المستغرب أن نرى الفحم يتحوّل إلى أول ضحية من ضحايات سياسات تغير المناخ. ومع ذلك، يصادف أنّ الفحم رخيص ومتوفر على نحو واسع – لذلك أصبح الوقود المفضل في الاقتصادات النامية الكبرى مثال الصين (أكبر منتج ومستهلك للفحم في العالم) والهند (ثاني أكبر مستهلك في العالم)، حيث يغذي الفحم عملية تصنيع حيوية بالنسبة إلى بقاء هذه الدول على المدى الطويل – تمامًا كما كان الحال قبل 200 عامًا في أوروبا والولايات المتحدة.

 

الطاقة الخضراء

 

لدى الطاقة الحديثة المتجددة، وبشكل رئيسي الطاقة الريحية والطاقة الشمسية، زخم قوي للنمو ومن المتوقّع أن تحافظ عليه. إلا أنها تبدأ من قاعدة منخفضة، لذا فإن حصتها في تشكيلة الطاقة الأولية عالميًا محكومة بالبقاء متواضعة، حتى لو استمر النمو القوي. ولا تزال أيضًا مصادر الطاقة المتجددة الحديثة مكلفة نسبيًا، ولذلك تعتمد على الإعانات، مما يفسّر لمَ لا تزال مركّزة بشكل خاص في الإقتصادات المرتاحة في منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية.

 

إلا أن الأمور في تغيّر؛ فالإقتصادات النامية تستدرك الأمر بشكل سريع والصين هي التي تقود الطريق. وفي العام 2015، بعد إتمام سد "الممرات الثلاثة"، أصبحت الصين أكبر منتج للطاقة الكهرمائية عالميًا، واستأثرت على كامل الإرتفاع العالمي الصافي. وهذا السد هو بالطبع مثال جيد عن واقع إمكانية تَحَمُّل حتى الطاقة المتجددة مخاطر بيئية ضخمة. مع ذلك، فقد سجلت الصين أكبر نسبة ارتفاع في الطاقة الشمسية، وتغلبت على ألمانيا والولايات المتحدة لتصبح المنتج الأكبر عالميًا. وكانت ثاني أكبر منتج للطاقة الريحية بعد الولايات المتحدة، واحتلت المرتبة الخامسة في الوقود الأحيائي، بعد الولايات المتحدة والبرازيل وألمانيا وفرنسا.[2]

 

وحتى لو اتبعت بلدان نامية أخرى خطوات الصين، يبقى أنّ المشاكل الأساسية وهي التقطع والنقص في قابلية التخزين والتكلفة العالية تعيق الإستخدام الأوسع للطاقة المتجددة الحديثة. ويبدو أن الإمكانية العالمية للمزيد من الطاقة الكهرمائية قد نضبت تقريبًا. وبعد مرور 60 عامًا على بدء تشغيل محطة الطاقة الذرية الأولى، تبلغ الطاقة الذرية 11% فقط من إنتاج الكهرباء العالمي، بانخفاض عن الدرجة الأعلى البالغة 18% في العام 1996 وهو ما يعكس صدمة بالموافقة السياسية التي نتجت عن فوكوشيما.[3]

 

ليس هناك أي شك بأن العالم يتجه نحو مزيج طاقة أكثر تنوعًا وأنه ينفصل عن التقليد القديم لوقود منفرد ومهيمن (الرسم 2). إلا أن تحولًا أكثر جذرية في هذا المزيج بعيدًا عن الوقود الأحفوري – الثورة المتجددة التي يدعو إليها الكثيرون – والذي قد يعكس حصة كافة الوقودات الأحفورية مقابل مصادر الطاقة الأكثر مراعاة للبيئة، سوف يأخذ وقتًا أطول بكثير. وما يجعل استبدال الوقود الأحفوري حاملًا في طياته هذا الكم من التحديات هو الواقع البسيط أنه أقل كلفة من البدائل وغالبًا أكثر ملاءمة ودومًا أكثر وفرة. ولن تحدث هذه الثورة إلا عندما تساعد التكنولوجيا على تغيير الإقتصاديات لمصلحة هذا الأخير.

 

الرسم 2: مزيج الطاقة الأولية عالميًا: في الماضي والحاضر والمستقبل

2-chart-updated-carole.jpg

 

هذه المدونة كتبت أصلاً باللغة الانكليزية

 


[1] المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية، [على الإنترنت]. حزيران/يونيو 2016. متوفر على الرابط https://www.bp.com/content/dam/bp/pdf/energy-economics/statistical-review-2016/bp-statistical-review-of-world-energy-2016-full-report.pdf

[2] كارول نخلة. آب/أغسطس 2016. China at the Center of Global Energy Change. Geopolitical Intelligence Service، [على الإنترنت]. متوفر على الرابط http://www.crystolenergy.com/china-center-global-energy-change/

[3] توقعات الطاقة العالمية. 2014. الوكالة الدولية للطاقة، [على الإنترنت]. متوفر على الرابط http://www.worldenergyoutlook.org/weo2014/

 


الدكتورة كارول نخلة مؤسسة ومديرة Crystol Energy، وهي شركة استشارية وبحثية وتدريبية في لندن. خبيرة اقتصادية في مجال الطاقة ومتخصصة في الترتيبات الدولية لعقود البترول والأنظمة المالية، وإدارة وحكم عائدات النفط، وسياسة الطاقة، والأمن والاستثمار، وتنمية أسواق النفط والغاز العالمية. 

 


إنّ كافة الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي البوابة العربية للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

كارول نخلة كارول نخلة

الأكثر قراءة