إعادة النظر في التكامل الاقتصادي والتجاري في المنطقة العربية: آفاق جديدة لحصاد الإمكانيات غير المستغلّة

أحمد غنيم, 21 يونيو/حزيران 2017

​​مرّ التكامل الاقتصادي في المنطقة العربية بمراحل عديدة في تاريخه، منذ المحاولة الأولى في معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية في العام 1950، وصولًا إلى إعلان منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى في العام 1997 والذي تمّ تطبيقه بالكامل بحلول العام 2005. وخلال الفترة الممتدة من العام 2000 وإلى العام 2015، استمرت نسبة الصادرات العربية البينية من الصادرات الإجمالية بالازدياد بشكل منتظم لترتفع من 5.1% في العام 2000 إلى 10.8% في العام 2015[1].

 

ويُعتَبَر هذا التوجّه متواضعًا نسبيًا، مقارنةً بالاتفاقيات التجارية الإقليمية الأخرى حول العالم، وذلك مردّه جزئيًا إلى هيكلية الإنتاج والصادرات المتشابهة للبلدان العربية (نسبة عالية من النفط ومبادلات تجارية محدودة بين الصناعات). في الوقت ذاته، لعبت العوامل السياسية والمؤسساتية دورًا جوهريًا في منع البلدان العربية من حصاد منافع إمكانيات التجارة البينية. وبقي التكامل الاقتصادي العربي متواضعًا، وذلك لأسباب تتراوح بين النزاعات السياسية إلى انتشار الحواجز غير الجمركية والمؤسسات الضعيفة التي تدير عملية التكامل. هذه المدوّنة تسلّط الضوء على إمكانية إعادة إنعاش التكامل الاقتصادي العربي من وجهة نظر جديدة.

 

يمكن تصنيف كافة أوجه النقاش الأكاديمي حول التكامل الاقتصادي والتجاري العربي – استكشاف إذا ما كانت التجارة البينية دون الإمكانية أو على مستواها – والتي تأخذ بعين الاعتبار العوامل الاقتصادية الأساسية للبلدان العربية، في معسكرين رئيسيَّين.

 

يستند الأول بشكل رئيسي إلى نماذج التجاذب[2] ويعتبر أن التجارة البينية قد وصلت إلى حدود إمكاناتها، في حين يستند الثاني إلى مؤشرات التجارة داخل الصناعات[3] ويعتبر أن أداء التجارة البينية العربية كان ناجحًا، إلا أنه لا يزال هناك مجال لتعزيز التكامل. وأنا أزعم في هذه المدوّنة أن الحقيقة تقع في مكان ما بينهما وتعتمد على مجموعة الشروط التي يأخذها الإطار التحليلي بعين الاعتبار؛ وهي تضمّ، ضمن غيرها، المتغيرات التي تُنتج سيناريوهات محاكاة مختلفة. على سبيل المثال، يشكّل تعزيز المؤسسات التي تدير التجارة البينية، وبشكل خاص تلك المتعلقة بفصل النزاع ورصد الحواجز غير الجمركية ومراقبتها، عنصرًا رئيسيًا لضمان نجاح ترسيخ عملية التكامل العربي. إضافةً إلى ذلك، تبقى إمكانية تعزيز التجارة في الخدمات غير مستغلة ويحدد الإبرام الحديث للمفاوضات حول التجارة البينية في الخدمات في العام 2017 إطار العمل الإجمالي، إلا أن الحاجة لا تزال تدعو إلى خطوات إضافية لضمان نجاحها.

 

علاوةً على ذلك، تنبثق إمكانية التكامل الاقتصادي العربي من الطبيعة التكاملية للإقتصادات في ما يختص بالتحرّكات الرأسمالية والعمّالية[4]. بالتالي، فإن التركيز على التجارة في البضائع فحسب يمنع البلدان العربية من استثمار الإمكانيات الكاملة لتكاملهم، إذا نظرنا إلى الأمر من منظور أوسع. إلا أن الاقتصاد السياسي الحالي للمنطقة العربية، وبخاصة بعد العام 2011، قد جعل البيئة السياسية أكثر تعقيدًا، حيث تلعب الأنشطة السياسية المتصلة بالهوية دورًا أكبر في التأثير على طبيعة العلاقات بين البلدان. وقد يؤخر هذا الوضع التكامل العمالي بشكل أكبر، مما يجعله متعذرًا في المدى القريب والمتوسط الأجل. إلا أن هذه الحالة لا تنطبق على حركة رأس المال إذ أنها تاريخيًا لم تُعتَبَر أبدًا بمثابة قيد بين البلدان العربية.

 

لتعزيز التكامل التجاري العربي، ثمة حاجة إلى توفير شروط أساسية مسبقة. وتشمل هذه تغيير التركيبة المؤسساتية التي تدير التكامل الاقتصادي العربي وإدخال الإصلاحات المحلية وترسيخ طبيعة هذا التكامل. وعلى مجالات التركيز الجديدة أن تشمل تعزيز التجارة في الخدمات والمشاركة في سلاسل القيمة الإقليمية وتحديث نظام قواعد المنشأ للسماح بالتراكم الفعلي وتعزيز التعاون في مشاريع البنى التحتية المشتركة.

 

أولًا، يمكن إصلاح التركيبة المؤسساتية لجامعة الدول العربية ومجلسها الاقتصادي والاجتماعي اللذين كانا يشرفان على التكامل الاقتصادي العربي من خلال لعب دور المنظمة المشتركة بين الحكومات، بحيث أنها تصبح أقرب إلى المنظمة فوق الوطنية مع تفويض لخدمة المصلحة الإقليمية بشكل رئيسي. ويعدّ نموذج المفوضية الأوروبية وكيفية تعاطيها مع السياسة التجارية داخل الإتحاد الأوروبي نموذجًا متميّزًا في هذا السياق. وهي تحمي المصلحة الإقليمية وتتمتع بالسلطة الإستنسابية لحل النزاعات الناشئة بسبب التنافس حول المصالح الوطنية بين بلدان الإتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك، تحتاج المنطقة العربية إلى آلية أكثر فعالية لرصد ومتابعة الحواجز غير الجمركية، كما ولحل النزاعات.

 

ثانيًا، الإصلاحات المحلية هي أيضًا أساسية وتشمل بشكل رئيسي تسهيل التجارة وأنظمة إدارة المرفأ والجمارك. في هذا الإطار، هناك حاجة ماسة إلى تحديث هذه الأنظمة واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إدارتها. كذلك، يجب تخفيض تكاليف التجارة بين البلدان العربية بشكل كبير للحد من التحيّز ضدّ الصادرات العربية، والذي يعود بشكل رئيسي إلى انتشار الحواجز غير الجمركية والتكاليف الحدودية المرتفعة[5].

 

ثالثًا، تقدّمت البلدان العربية خطوةً إلى الأمام نحو اتحادها الجمركي مع وضع اللمسات الأخيرة على مسوّدة قانون الجمارك الموحّد في العام 2014. إلا أن ما تحتاجه البلدان العربية لتعزيز تكاملها ليس الانتقال من إعلان منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى إلى اتحاد جمركي، بل إلى التركيز، بشكل متساوٍ، على ترسيخ علاقاتها التجارية. وفي هذا الخصوص، ثمة حاجة ماسة إلى تنسيق السياسات والمعايير والتنظيمات. وقد أعاق اعتماد المعايير الوطنية المختلفة وتطبيقها الإستنسابي تجارة البضائع. وأتى تأسيس الجهاز العربي للاعتماد[6] في العام 2011، والذي تمّ الاعتراف به من قبل جامعة الدول العربية في العام 2015، بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها تتطلّب التزامًا سياسيًا أكثر صلابة. ويمكن لتنسيق السياسات أن يأتي في مرحلة لاحقة، إلا أنه على تنسيق السياسات المتصلة مباشرةً بالتجارة مثال دعم الإنتاج أن يتم بشكل أفضل بين البلدان العربية.

 

أما في ما يتعلّق بمجالات التركيز على الأولويات، فمن الهام في هذه المرحلة اعتماد مقاربة واقعية والابتعاد عن الحجج التقليدية التي تدعو إلى التكامل العمالي، وذلك نظرًا إلى الديناميات السياسية الإقليمية. وهنا أقترح التركيز على تعزيز التكامل الإقليمي في الخدمات من خلال الاستفادة من الانعقاد الناجح لجولة بيروت للمفاوضات والتي دامت من العام 2003 وحتى العام 2017. هذا وتبقى إمكانية تعزيز التجارة في الخدمات على الصعيد الإقليمي خجولة ومن المفترض أن تكون الممانعة السياسية المتوقعة أقل مقارنةً بالتجارة في البضائع، وذلك بسبب طبيعة التجارة في الخدمات التي لا تنطوي على خسارة في إيرادات التعريفة أو صرف العمالة المحلية، كما هي الحال مع التجارة في البضائع. مع ذلك، تدعو الحاجة إلى الكثير من التعاون على المستوى التنظيمي.

 

أخيرًا، من أجل تعزيز التجارة في البضائع، تدعو الحاجة إلى تصوّر مفهوم التجارة في سياق جديد يستند بشكل رئيسي إلى التراكم الفعال لقواعد المنشأ حيث تُعطى محفّزات إضافية إلى المصدّرين العرب لكي يشتركوا في سلاسل القيم الإقليمية. وتستطيع سلاسل القيم الإقليمية التي يمكن أن تكون جزءًا متكاملًا من سلاسل القيم العالمية، وبالإستناد على تراكم أكثر ملاءمة لقواعد المنشأ، أن تساعد في دعم الاستثمار والتجارة في المنطقة العربية. أضِف إلى ذلك أن تعزيز التعاون على مشاريع البنى التحتية المشتركة، وبخاصة تلك المتصلة بالنقل والمرافئ لا يعزز التكامل التجاري والاقتصادي فحسب، بل يمتلك أيضا تأثيرًا إيجابيا على الحدّ من الصراعات الإقليمية.

 

وختامًا، تبقى الإمكانية لتعزيز التكامل الاقتصادي والتجاري غير مستغلة بالكامل ويمكن تعزيزها بشكل إضافي، شرط أن يتمّ اعتماد إطار عمل جديد أكثر واقعية يأخذ بعين الاعتبار الوقائع الاقتصادية والديناميات السياسية والتركيبات المؤسساتية.

 


[1] تم احتساب الأرقام من قبل الكاتب للدول الأعضاء في إعلان منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى الـ 18 من قاعدة البيانات الإحصائية لتجارة السلع الأساسية في الأمم المتحدة والموجودة [عبر الانترنت]، متوفر عبر الرابط: https://comtrade.un.org/db/

[2] راجع على سبيل المثال: Behar, Alberto and Caroline Freund (2011), “The Trade Performance of the Middle East and North Africa”, World Bank Middle East and North Africa Region, Working Paper No. 53, July 2011, Washington D.C.: World Bank, available at: http://siteresources.worldbank.org/INTMENA/Resources/WP53.pdf, and Al –Atrash, Hassan and Tarik Yousef (2000), “Intra-Arab Trade: Is it Too Little?” IMF Working Paper No. 00/10, available at: https://www.imf.org/external/pubs/ft/wp/2000/wp0010.pdf

[3] راجع على سبيل المثال: Hoekman, Bernard and Khalid Sekkat (2010), “Arab Economic Integration: The missing links", SciencesPo Working Paper, April 2010, available at: http://ecipe.org//app/uploads/2014/12/Hoekman_arab_economic_integration.pdf and Havrylyshyn, Oleh and Peter Kunzel (1997), “Intra-Industry Trade of Arab Countries: An Indicator of Potential Competitiveness, IMF Working Paper No. WP/97/47

[4] راجع على سبيل المثال: Fischer, Stanley (1993), “Prospects for Regional Integration in the Middle East”, in de Melo, Jaime and Arvind Panagariya (eds.), New Dimensions in Regional Integration, Cambridge: Center for Economic Policy Research (CEPR) and Cambridge University Press.

[5] على سبيل المثال، لا تزال رسوم المناولة في المرفأ مرتفعة في البلدان العربية وتصل تقريبًا إلى ثلاثة أضعاف الرسوم في المرافئ المجاورة غير العربية. راجع Hoekman, Bernard (2016), “Intra-Regional Trade: Potential Catalyst for Growth in the Middle East”, MEI Policy Paper 2016-1, Washington D.C.: Middle East Institute, available at http://www.mei.edu/sites/default/files/publications/Hoekman_PDF%20%282%29.pdf

[6] تم إطلاق الجهاز العربي للاعتماد في 12 حزيران/يونيو 2011، لكي يشكل هيئة الاعتماد للتعاون العربي في تخطيط البنية التحتية للاعتماد في المنطقة العربية (22 بلد عربي) وتنميتها وتنسيقها بغية دعم التجارة بين الدول العربية وتحسين التنافسية وتأمين الثقة في السلع والخدمات العربية وحماية الصحة والسلامة للعامة والبيئة. وقد أقر المجلس الوزاري الاقتصادي والاجتماعي، عقب اجتماعه الـ 95 لجامعة الدول العربية المنعقد في 19 شباط/فبراير 2015 في مقر جامعة الدول العربية الرئيسي في القاهرة، مصر، بتشكيل الجهاز العربي للاعتماد أحد الركائز الأساسية للبنية التحتية للجودة العربية في دعم التجارة البينية ومتطلبات الإتحاد الجمركي العربي. راجع http://www.arac-accreditation.org/uploads/6444-ARAC%20Brochure_Eng.pdf.

 

هذه المدونة كتبت أصلاً باللغة الانكليزية

 


أحمد غنيم أستاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة. وهو باحث في منتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية (ERF) في مصر، وفي مركز البحث الاقتصادي والاجتماعي (CASE) في بولندا.

 


إنّ كافة الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي البوابة العربية للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

أحمد غنيم أحمد غنيم

الأكثر قراءة