الثورة الرقمية واللامساواة في المنطقة العربية

غسان ديبة, 06 نوفمبر/تشرين الثاني 2019

 

سلسلة مدونات  تعنى بتفكيك المعتقدات الخاطئة حول التكنولوجيات الرقمية

يساهم غسان ديبة بسلسلة مدونات تساهم في فتح باب النقاش حول اقتصاد المعرفة والثورة الرقمية بهدف تفكيك بعض الروايات الشائعة حولها وإطلاع القرّاء حول الأبعاد المختلفة التي يجب أخذها بعين الاعتبار لكي تستفيد البلدان العربية من القيمة المضافة والميزة التنافسية التي قد تحدثها التكنولوجيات الرقمية.

 

يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجية جديدة: الثورة الصناعية الرابعة أو عصر الآلة الثاني كما وصفاه إريك براينيولفسون وآندرو مكافي في كتابهما "عصر الآلة الثاني" (2014). ويظهر تأثير هذه الثورة الجديدة، والمتمثلة بعلم الروبوتات والذكاء الصناعي، في ظهور الروبوتات وفي استبدال اليد العاملة البشرية بالآلات؛ أو في التفرّد التكنولوجي وذلك حينما يتفوّق الذكاء الآلي على الذكاء البشري كما يزعم راي كورزويل. وعلى الرغم من هذه الاحتمالات، لا يزال استبدال اليد العاملة بالآلات موضوعًا مثيرًا للجدل، مع حججٍ تدعم الجهتين على حدّ سواء. ولا يرجح تقرير أخير صادر عن فريق عمل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) حول عمل المستقبل[1]، احتمال قيام الروبوتات، في المستقبل القريب على الأقل، باستبدال ملايين الوظائف في الولايات المتحدة. لكنّه يحذّر من أثر التكنولوجيات الجديدة على اللامساواة في توزيع الدخل.

وفي هذا الصدد، سيكون للتكنولوجيات الرقمية الجديدة تأثيرًا ملحوظًا على اللامساواة في توزيع الدخل والثروة، سواء أصبحت الآلات بديلًا للعمالة ما يؤدي إلى تفاقم أزمة البطالة (في أقصى الحالات، يسيطر برنامج آلي-روبوت- واحد على الاقتصاد كله)، أو وجد أولئك الذين استبدلوا بالآلات وظائف في مكان آخر في الاقتصاد (بحسب قانون ساي). وتثير كلتا الحالتين احتمالات غاية في الخطورة في قضية اشتداد اللامساواة، وذلك يؤدي في البيئة الاقتصادية الحالية إلى تفاقم مثل هذه النزعة والتي أشار إليها توماس بيكيتي في كتابه "الرأسمال في القرن الحادي والعشرين" (2013). فعلى سبيل المثال، وفقًا لصندوق النقد الدولي، يُنسب ما يقارب من نصف الانخفاض في حصة العمالة إلى تأثير التكنولوجيا في الاقتصادات المتقدمة. إلا أن تأثير التكنولوجيا على حصة العمالة في الأسواق الناشئة هو أقل، فهو يؤثر على ربع الانخفاض فقط. وعلى الرغم من أن أهمية التكنولوجيات الرقمية في الاقتصادات العربية فهي لا تزال هامشية إلى حد كبير، إلا أنه من المفيد البدء في مناقشة أثرها المحتمل على اللامساواة في المنطقة.

 

 

 

نظرة سريعة على اللامساواة في المنطقة العربية

تعاني المنطقة العربية، على الرغم مما يُسمّى بـ "لغز اللامساواة العربي"[2]، من تفاوتات كبيرة. فمستوى التفاوت في الثروة مرتفع للغاية؛ ويبرز التفاوت الشديد في الثروة في سيطرة عدد قليل من الأفراد والأسر على الثروات. فوفقًا لـ إيلينا إيَنشوفيشينا، وهي خبيرة اقتصادية في البنك الدولي، إن تركيز الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد هو أعلى بكثير في العديد من البلدان العربية منه في بلدان أخرى ذات مستويات مماثلة من التنمية الاقتصادية. على سبيل المثال، يسيطر عدد قليل من الأفراد وعائلاتهم في لبنان ومصر على ثروة تساوي 30% و24% من إجمالي الناتج المحلي[3]، على التوالي. وتظهر دراسات أخرى، وعلى عكس معدلات مؤشر جيني المتدنية في المنطقة، تتراوح حصة أعلى 10% من أصحاب الدخل في الشرق الأوسط بين 55% و61%، والتي يمكن مقارنتها مع التوزيعات في مناطق نامية أخرى لكنها أعلى من مستويات اللامساواة في الولايات المتحدة وأوروبا[4]. إضافة إلى ذلك، فإن حصة القوى العاملة متدنية (مثال، 29% في مصر)[5]، وقد شهدت المنطقة العربية تراجعًا في الأجور الحقيقية بنسبة 2.7% بين عامي 2006 و2011، وهي المنطقة الوحيدة التي سُجِّل فيها مثل هذا الانخفاض[6]. ومن الأمثلة الخطيرة الأخرى على مستوى اللامساواة، مؤشّر التنمية البشرية المعدَّل وفقًا لعدم المساواة (IHDI)، والذي يظهر أن دليل التنمية البشرية يخسر 25% من قيمته حينما يتم ضبط عدم المساواة في مجالات الصحة والتعليم والدخل؛ وهو ثالث أعلى مستوى بعد منطقتي جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء[7].

 

التكنولوجيات الرقمية واللامساواة

وفقًا لـ عصر الآلة الثاني، يؤثّر التقدّم التكنولوجي في عصر الرقمنة على اللامساواة عبر ثلاث قنوات: أولًا، من خلال عائدات أصحاب رؤوس الأموال؛ ثانيًا، وجود الأسواق التي تعمل تحت شعار "الرابح يأخذ كلّ شيء"؛ وأخيرًا، من خلال التغيير التكنولوجي المتحيّز للمهارات. فالتكنولوجيات الرقمية هي جزء من رأس المال، وبالتالي "من يملك الروبوتات؟" يصبح السؤال الحاسم.  وسوف يؤدي تركيز ملكية رأس المال والثروة المالية والوصول المحدود إلى الأسواق المالية في المنطقةالعربية  إلى سيطرة أصحاب رأس المال الحاليين على الشركات الرقمية المتفوقة. وكدليل على هذا الانحياز، فإن التكاليف الإدارية للشركات الناشئة تعتبر باهظة في الكثير من البلدان. وحتى في دولة الإمارات العربية المتحدة الداعمة للشركات الناشئة، فالتقديرات تشير إلى أن هذه التكاليف تصل إلى حوالي 25,000 دولار أميركي في السنة الأولى.

ثانيًا، في الأسواق التي تعمل تحت شعار "الرابح يأخذ كل شيء"، يتم تحديد العائد على العمل بشكل أساسي من خلال الأداء النسبي، فيما ترتبط العائدات في الأسواق التقليدية ارتباطًا وثيقًا بالأداء المُطلق. ففي الأسواق التقليدية، يحصل العامل الذي يتمتّع بنسبة 90% من المهارة أو الانتاجية نسبة الى عامل آخر ، على 90% من أجره/أجرها. غير أن اختلاف بسيط في قدرات البرمجة قد يؤدي إلى سيطرة العامل الأفضل على السوق . وكما أشار  براينيولفسون ومكافي، فعلى سبيل المثال،لن يكون هناك طلب على عاشر أفضل برنامج محاسبة. إضافة إلى ذلك، ستساعد التكنولوجيات الجديدة "شركات السوبر ستار" على اتساع الفجوة عن بقية الشركات، مع تركيز الدخل في أيدي قلّة من الشركات. ففي عام 2014، كان لدى "واتساب" مثلاً 55 موظفًا يعملون على خدمة 450 مليون عميل. إضافة إلى ذلك، فالشركات الكبرى في عام 2011 المماثلة لأكبر أربع شركات في عام 1964 من حيث قيمتها السوقية والتي بلغت 180 مليار دولار أميركي (بسعر الدولار في عام 2011) لديها ربع عدد الموظّفين. وتعتَبر ديناميكية التكنولوجيات الجديدة عالمية في هذا الصدد. وبالتالي فإن إمكانية "شركة سوبر ستار " من خارج المنطقة العربية على السيطرة على السوق من شأنها أن تمنع المطوّرين وأصحاب المشاريع المحليين من التنافس مع هذه الشركات العملاقة العالمية (استحواذ "أوبر" على "كريم"). كما ان وجود تأثيرات على الشبكات والتكتّلات سيتيح المجال بشكل أكبر أمام الاحتكارات العالمية للسيطرة على الأسواق العربية، مع وجود عدد قليل من الشركات التابعة لأصحاب المشاريع المحليين المترابطين شبكيًا إلى حدّ كبير. في أفضل الأحوال، يقوم أصحاب المشاريع المحليين هؤلاء بتشكيل مجموعة من الابتكارات المرتبطة بالاحتكارات العالمية التي تقاسمهم الإيجارات.

ثالثًا، من شأن التغيير التكنولوجي المتحيّز للمهارات أن يساعد من يتمتّع بمهارات أعلى على اكتساب زيادة في الدخل  بالمقارنة مع الأشخاص ذوي المهارات الأقلّ. وبالتالي فإن التفاوتات في الأجور بين العمال انفسهم  سوف تزداد. وكدليل على هذه الظاهرة في المنطقة العربية (وهوغير مرتبط بالتكنولوجيات الرقمية)، سجل ارتفاع في الامساواة في الأجور في قطاع التصنيع منذ عام 1980، كما تم قياسها بواسطة مؤشراتUTIP (مشروع عدم المساواة التابع لجامعة تكساس). وفي هذا الصدد، يمكن لعدم المساواة في الحصول على التعليم أن يكون له أثر ملحوظ على مثل هذه الفوارق. ووفقًا لليونيسف، "لا يزال ثمة ثغرات كبيرة جدًا في التحصيل العلمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع وجود فارق يصل إلى 10 سنوات من التعليم بين أعلى 20 في المائة من الأكثر تعليمًا وأدنى 20 في المائة من الأقل تعليمًا". إضافة إلى ذلك، فلعدم المساواة في الثروة تأثير بالغ على إتمام الدورات التعليمية المختلفة في المنطقة"[8].

باختصار، قد لا تأتي الروبوتات بشكل كبير لتحلّ مكان العمالة البشرية في المنطقة العربية، إلّا أنها ستأتي لتوسيع فجوة اللامساواة في الدخل والثروة، ذلك لأن التكنولوجيات الرقمية ستخلق فجوة كبيرة بين أولئك الذين يمتلكون رأس المال ويتمتّعون بمهارات عالية ومتّصلين ومترابطين شبكيًا على المستوى العالمي، وبين أولئك الذين لا يتمتعون بذلك.
 

 

تم  تحديث هذه اللمحة العامة من قبل فريق عمل البوابة العربية للتنمية استنادًا إلى أحدث البيانات المتاحة في حزيران/يونيو 2019. 


 

[1] متوفر على https://workofthefuture.mit.edu/ (تم الدخول في 25 أيلول/سبتمبر 2019).

[2] ظهرت العبارة أولًا في المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا الصادر عن البنك الدولي، 2015. متوفر على: https://www.worldbank.org/en/region/mena/publication/mena-economic-monitor-october-2015-inequality-uprising-conflict-arab-world
[3] https://www.brookings.edu/blog/future-development/2015/02/04/how-unequal-are-arab-countries-2/
[4] ألفاريدو، ف. وبيكيتي، ت. (2015). ورقة عمل "قياس الدخول العليا وعدم المساواة في الشرق الأوسط" (Measuring Top Incomes and Inequality in the Middle East).
[5] حصة العمالة غير المعدّلة في بحث م. غيريرو (2012). "حصة العمالة من الدخل حول العالم. أدلّة من مجموعة بيانات الفريق، المؤتمر الدولة الرابع للتنمية الاقتصادية لـ GREThA/Gres – "أوجه عدم المساواة والتنمية: تحديات جديدة، قياسات جديدة؟"، جامعة بوردو، فرنسا، حزيران/يوني 13-15، 2012.
[6] أبو اسماعيل، ك. ون. سارانغي (2015). النمو الاقتصادي، عدم المساواة والفقر في العالم العربي. آلية التنسيق الإقليمية. موجز الملاحق لتقرير التنمية المستدامة العربية، الأمم المتحدة-الإسكوا.
[7] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، متوفر على: http://hdr.undp.org/en/composite/IHDI
[8]  الإنصاف والوصول إلى التعليم ونتائج التعلم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اليونيسف، 2015.

 


غسان ديبة حاصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء وشهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة تكساس في أوستن. هو أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأمريكية. تشمل اهتماماته البحثية والتعليمية الاقتصاد السياسي والدورات الاقتصادية والذكاء الاصطناعي والرأسمالية. وقد ظهرت أبحاثه في عددٍ من المجلات منها Physica A ومجلة الاقتصاد الحسابي (Computational Economics) ومجلة الاقتصاد السياسي (Review of Political Economy)، ومجلة التنمية الدولية (Journal of International Development)، ومجلة العلاقات الصناعية (Journal of Industrial Relations)، والمجلة الدولية للقوى العاملة (International Journal of Manpower).


 

إنّ كافة الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي البوابة العربية للتنمية.

 

غسان ديبة غسان ديبة

الأكثر قراءة