هل لبنان مستعد لمواكبة الثورة الصناعية الرابعة؟

28 يناير/كانون الثاني 2020

 

 

سلسلة مدونات  تعنى بتفكيك المعتقدات الخاطئة حول التكنولوجيات الرقمية

يساهم غسان ديبة بسلسلة مدونات تساهم في فتح باب النقاش حول اقتصاد المعرفة والثورة الرقمية بهدف تفكيك بعض الروايات الشائعة حولها وإطلاع القرّاء حول الأبعاد المختلفة التي يجب أخذها بعين الاعتبار لكي تستفيد البلدان العربية من القيمة المضافة والميزة التنافسية التي قد تحدثها التكنولوجيات الرقمية.

 

في مقال بعنوان " عصر الآلة الثاني في نقطة التحول"، أشار الكتّاب إلى أن "العديد من المشاريع التكنولوجية خلال العقد الأخير تمحورت حول كيفية تواصل الناس واستهلاكهم ومعاملاتهم وسفرهم. أما على مدار العقد المقبل، فقد تتمحور أهم الابتكارات- و فرص الاستثمار – حول الصناعات، وفي غرف العمليات ومواقع التعدين ومرافق الطاقة".[1] بالتالي وعلى الرغم من أننا ما زلنا في المراحل الأولى من الثورة الصناعية الرابعة، إلا أنها تدخل الآن مرحلة جديدة حيث تنتقل التكنولوجيات الجديدة من الاستهلاك والترفيه إلى الإنتاج والاستثمار في التقنيات التي تعزز الكفاءة والانتاجية، وهي المرحلة الأهم بالنسبة للبلدان الرأسمالية المتقدمة وكذلك للبلدان النامية مثل لبنان.

فعلى الرغم من أن الهواتف الذكية والعديد من التطبيقات قد غيّرت في أنماط الحياة اليومية، وأثرت على الحركة التجارية، وكيفية تفاعلنا مع الآخرين، إلا أنها حتى ألأن لم تغيّرمن الواقع الصناعي حيث تكمن فرص نمو التقنيات الجديدة. فقد أشار روبرت جوردون، بأن التقنيات الجديدة، وعلى الرغم من أهميتها، لم يكن لها نفس الأثر الذي أحدثته التقنيات القديمة كالكهرباء، والسفر الجوي، والأجهزة المنزلية أو حتى السباكة المنزلية، على الإنتاجية في القرن العشرين.

في هذا الصدد، فإن المرحلة الجديدة لن يكون لها فقط أثر على الإنتاجية في البلدان التي سبق لها وشاركت في المرحلة الأولى من الثورة الصناعية الرابعة، بل ستسمح أيضًا للبلدان التي لم تستطع مواكبة هذه المرحلة، اللحاق بها واستخدامها كأداة لتحقيق التنمية الاقتصادية والتنافسية. إذاً، فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل لبنان مستعد لمواكبة الثورة الصناعية الرابعة؟ أو تحديداّ، هل بإمكانه  أن يجني ثمار هذه "المرحلة الثانية"؟  الجواب هنا معقد.

فخ اقتصاد الخدمات

لم يفوّت لبنان المرحلة الأولى من الثورة الصناعية الرابعة فحسب، بل إن اقتصاده يميل نحو القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة، كما أنه غير قادر على توليد فرص عمل كافية لخريجي الجامعات ذوي المهارات العالية. إضافةً إلى ذلك، يصنف لبنان كواحد من أقل الاقتصادات تنافسية، حيث يحتل المرتبة العاشرة من بين أربعة عشر بلد عربي بحسب تقرير التنافسية العالمي 2019 الصادر عن المنتدى الإقتصادي العالمي.[2] من ناحية أخرى، ووفقًا لتقرير MILES الصادر عن البنك الدولي في عام 2012، فإن 35.4 في المئة من العاملين بأجر و 61 في المئة من العاملين لحسابهم الخاص يعملون في الأنشطة ذات الإنتاجية المنخفضة مثل تجارة الجملة والتجزئة وغيرها من القطاعات، في حين أن 14.3 في المئة و 3 في المئة فقط على التوالي يعملون في أنشطة ذات انتاجية أعلى )مثل قطاع المعلومات والاتصالات؛ الأنشطة المالية والتأمينية؛ والأنشطة المهنية والعلمية والتقنية(، كما يعمل 11.3  في المئة و 8 في المئة فقط على التوالي في القطاع الصناعي.[3]

هذه الأرقام لا تعكس واقع بلد يطمح للانضمام إلى المرحلة التالية من الثورة الصناعية الرابعة. إضافةً إلى ذلك، فإن لبنان لم يتأهل حتى لما يُطلق عليه "الانضمام غير الفعال" للثورة الصناعية التي أتيحت لبعض البلدان الأقل نمواً من خلال الأتمتة. في هذا الصدد، يقدّر البنك الدولي (2016) أن  نسبة الوظائف التي يمكن أن تخضع لتغيير جذري بسبب الأتمتة هي في الواقع أعلى في الدول النامية مما هي في الدول الأكثر تقدماً.[4] وتقدم دراسة أجراها الكاتبان شلوغل وسامنر (2018) نموذجًا لاقتصاد مزدوج مقسمًا إلى قطاع قابل للأتمتة يتكون من وظائف قابلة للتشغيل الآلي مثل الزراعة، وقطاع مقاوم للأتمتة مثل قطاع الخدمات الذي يعتمد على التفاعل البشري والأنشطة غير الروتينية. في هذا النموذج، فإن القطاع الزراعي هو القطاع الأكثر عرضة للأتمتة. وعند تطبيقه على لبنان، نرى أن البلد تسيطر عليه القطاعات المقاومة للأتمتة، أي أن هيكله الاقتصادي لا يسمح باعتماد الأتمتة.[5] عندها، يمكننا أن نقول أن لبنان عالق في فخ اقتصاد الخدمات على غرار "فخ الدخل المتوسط".

وسيلة الخروج

يجب على لبنان إذاً إيجاد وسيلة للخروج من هذا "الفخ" للاستفادة من المرحلة الثانية من الثورة الصناعية. فكما يشير فيكتـور ماير-شـونبرغر في كتابه إعادة تصميم الرأسمالية في عصر البيانات الضخمة، أن القطاع المصرفي- وهو القطاع الاقتصادي الرائد في لبنان-سيتراجع بسبب حلول البيانات الضخمة ومحتواها المعلوماتي مكان دور النقود، في اقتصاديات السوق. وعلى الرغم من تجاهل هذا المنظور لدور النقود كرأسمال في الاقتصادات الرأسمالية، إلا أن لبنان، وبالنظر إلى الأحداث الأخيرة، يجب عليه الابتعاد عن الاعتماد المفرط على القطاع المصرفي والمالي.

 

ونظرًا لأن التقنيات الجديدة مرتبطة بالإنتاج، فيتعيّن علينا تغيير الاقتصاد هيكلياً من خلال زيادة حصة القطاعات الإنتاجية، وبشكل أساسي قطاع االصناعة. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى التنمية الاقتصادية في لبنان كما أنه السبيل نحو مستويات معيشية أفضل. حيث يرتبط نمو الصناعات التحويلية بارتفاع الدخل في البلدان النامية كما أشار العديد من خبراء الاقتصاد مثل ها جون تشانغ وداني رودريك. في هذا الصدد، فإن لبنان جاهز بشكل كبير للتغيير في بنيته الاقتصادية حيث أنه يتميّز  بوجود قوى عاملة متعلمة في الداخل  وفي بلدان الاغتراب والتي يمكن توظيفها في بناء قطاع صناعي متطور تقنياً. إنّ التحدي الأساسي إذاً هو جعل التكنولوجيا تلحق بالتعليم  في لبنان.

رؤية بريوبراجينسكي

في العشرينات من القرن الماضي، أثير نقاش في الاتحاد السوفياتي يدعى "مناظرات التصنيع". كان البلد حينذاك لا يزال يهيمن عليه قطاع الزراعة وغير متقدم صناعياً. وكان السؤال الأساسي" كيف يمكن الانتقال إلى دولة صناعية؟ " وكان يفجيني بريوبراجينسكي، أحد الاقتصاديين، طرفًا في النقاش. كانت حجته بسيطة ولكنها معقدة في الوقت نفسه: لا يمكن للاتحاد السوفياتي التحول لدولة صناعية إلا من خلال "استغلال" القطاع الزراعي لصالح القطاع الصناعي، أي من خلال تحويل الموارد من قطاع إلى آخر.

 لا تزال هذه الحجة صالحة في يومنا هذا في البلدان النامية. في لبنان، وهو اقتصاد يهيمن عليه قطاع الخدمات والأنشطة الاقتصادية الريعية، يمكن تحويل الموارد إلى القطاع التكنولوجي المتقدم من خلال نظام الضرائب. وبالتالي، فعلى الحكومة أن تلعب دور رئيسي في استعداد لبنان للثورة الصناعية الرابعة. ولا تستطيع السوق الحرة وحدها أن تقوم بذلك، بل من الضروري فرض سياسة صناعية حديثة تنقل الاقتصاد تدريجياً من اقتصاد ريعي من خلال فرض ضرائب على الإيجارات والثروة، وخاصة على الثروة المالية، وهي وفيرة في لبنان، ثم توجيهها إلى قطاعات الثورة الصناعية.[1]

لم يلحق لبنان، مثل معظم البلدان، بالمرحلة الأولى من الثورة الصناعية الرابعة، والتي كانت مركزة أساسًا في المجالات  التي تهيمن فيها الأسواق التي تعمل تحت شعار "الرابح يأخذ كلّ شيء" كالتطبيقات والاتصالات والبرامج وغيرها من النماذج الرقمية. أما الآن، ومع بدء المرحلة الجديدة والتي سيتم فيها ربط مثل هذه التقنيات بإلصناعة وانتاج المواد، فلدى لبنان الفرصة "لتطوير" هيكله الإنتاجي من خلال هذه التقنيات. إنّ لبنان مستعد للقيام بهذا "التطوير" لأنه يمتلك المعرفة الفنية والقاعدة العلمية التكنولوجية. وبالنظر إلى التحديات التي تعترض هذه الخطوة، من حيث إضعاف المصالح المالية والريعية السائدة حالياّ، فإن ما سوف نحتاج إليه في الواقع  هو ثورة اقتصادية لينضم لبنان إلى الثورة الصناعية الرابعة.

المصادر:

[1] مورغان ستانلي. 2019. عصر الآلة الثاني في نقطة التحول. [اونلاين] متوفر على: https://www.morganstanley.com/ideas/fourth-industrial-revolution ]تم الدخول كانون الأول/ ديسمبر 2019[.

[2] المنتدى الاقتصادي العالمي. 2019. تقرير التنافسية العالمي. [اونلاين] متوفر على: http://www3.weforum.org/docs/WEF_TheGlobalCompetitivenessReport2019.pdf ]تم الدخول كانون الأول/ ديسمبر 2019[.

[3] البنك الدولي. 2012. الوظائف المطلوبة في الجمهورية اللبنانية: دور سياسات الاستثمار الكلي والتعليم والعمل والحماية الاجتماعية.[اونلاين] متوفر على: http://documents.worldbank.org/curated/en/230521468089355499/pdf/760080ESW0GRAY0C0Disclosed030200130.pdf ]تم الدخول كانون الأول/ ديسمبر 2019[.

[4] البنك الدولي. 2016. تقرير عن التنمية في العالم: الأرباح الرقمية. [اونلاين] متوفر على: https://www.worldbank.org/en/publication/wdr2016 ]تم الدخول كانون الأول/ ديسمبر 2019[.

[5] شلوغل، ل. وسامنر، أ. تموز/ يوليو 2018. الأتمتة ومستقبل التنمية الاقتصادية، والعمل، والأجور في البلدان النامية. مركز التنمية العالمية. ورقة العمل 487. [اونلاين] متوفر على: https://www.cgdev.org/sites/default/files/rise-robot-reserve-   army-automation-and-future-economic-development.pdf  ]تم الدخول كانون الأول/ ديسمبر 2019[.

 

[1] في الصين، نتجت التنمية الاقتصادية عن تحويل الموارد من القطاع الزراعي والذي أدى إلى تعزيز قطاع التصنيع. للمزيد الإطلاع على جون نايت "مقصات الأسعار وعمليات نقل الموارد بين القطاعات: من الذي دفع مقابل تطوير قطاع التصنيع في الصين؟" ، أوراق أكسفورد الاقتصادية، سلسلة جديدة، المجلد. 47، الرقم 1 (كانون الثاني/ يناير 1995) pp. 117-135. وايضا على كريستوبال كي "لماذا تتفوق شرق آسيا على أمريكا اللاتينية: الإصلاح الزراعي والتصنيع والتنمية"، مجلة العالم الثاث الربعية، المجلد 23، رقم 6 (كانون الثاني/ ديسمبر 2002)، pp. 1073-1102.
 


غسان ديبة حاصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء وشهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة تكساس في أوستن. هو أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأمريكية. تشمل اهتماماته البحثية والتعليمية الاقتصاد السياسي والدورات الاقتصادية والذكاء الاصطناعي والرأسمالية. وقد ظهرت أبحاثه في عددٍ من المجلات منها Physica A ومجلة الاقتصاد الحسابي (Computational Economics) ومجلة الاقتصاد السياسي (Review of Political Economy)، ومجلة التنمية الدولية (Journal of International Development)، ومجلة العلاقات الصناعية (Journal of Industrial Relations)، والمجلة الدولية للقوى العاملة (International Journal of Manpower).


إنّ كافة الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي البوابة العربية للتنمية.

 

الأكثر قراءة