كيف يمكن لاتفاقات التجارة أن تدفع إلى الحوكمة الرشيدة؟

ريما يونس الخطيب , 15 يونيو/حزيران 2016

يعرّف الأكاديميون وممارسو التنمية نقص الحوكمة الرشيدة على أنّه إحدى العقبات الرئيسية بوجه التنمية والإزدهار الإقتصادي في المنطقة العربية[1]. في الواقع، يمكن ربط العديد من المشاكل الداخلية، لا سيما الفساد الهيكلي وأنظمة التعليم الضعيفة والبطالة المرتفعة، بمستويات الحوكمة الضعيفة، في كافة أبعادها الثلاثة، السياسي والإقتصادي والمؤسساتي، كما وتفسيرها بواسطتها.

 

خلال تصميم الإصلاحات الهيكلية والحلول للتغلب على النقص في الحوكمة الرشيدة، تمّ غض النظر لفترة طويلة عن سياسات التجارة كمشروع حل. إلا أنه يمكن لإتفاقيات التجارة أن تلعب دور أداة وظائفية في الحث على الإصلاحات المؤدية إلى الحوكمة الرشيدة.

 

أظهرت التجارب السابقة أن الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية قد استخدمت تفويض  المنظمة واتفاقيتها السابقة لها، أي الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات)، على فترة طويلة، لتحسين الحوكمة في عدد من الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، كما وفي الدول  في طور الانضمام؛ وعلى الرغم من أن منظمة التجارة العالمية لا تتناول التنظيمات التي تتصدى للفساد بحد ذاته، إلا أن البلدان الأعضاء قد استطاعت استخدام آليات منظمة التجارة العالمية الثلاثة (عملية الإنضمام وعملية مراجعة السياسة التجارية الدورية وأخيرًا، آلية تسوية النزاعات التجارية) كأدوات لمكافحة الفساد، من خلال مساءلة الحكومات – ودفعها بذلك للتماشي مع ممارسات الحوكمة المحسنة. وبشكل غير مباشر، يمكن رؤية الإلتزامات في السياسات التي يجب على الدول اعتمادها كأثقال موازنة لمكافحة الفساد حيث أنها تساهم في تعزيز قدرة المواطنين على مراقبة حكومتهم ومساءلتها[2].

 

من جهة ثانية، دفع الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية الدول الأعضاء إلى تعزيز ممارساتهم في الحوكمة حيال الجهات الفاعلة في السوق الأجنبية. وعلى الحكومات، في مفاوضاتها  للانضمام إلى المنظمة ، أن تلتزم بإصلاحات  بنيوية تتخطى المسائل المتعلقة بالتجارة، مثال النفاذ إلى الأسواق وسياسة المنافسة وضوابط الأسعار، لتشمل اصلاحات في مجالات أوسع مثل سياسات الإستثمار ومخططات الخصخصة ونظام المشتريات الحكومية، وبذلك تدعم متطلبات الشفافية. وفي حال تم عكس هذه الإلتزامات في أي مرحلة، تكون عندها  الدول خاضعة لإجراءات عقابية من خلال آلية تسوية النزاعات في المنظمة.

 

وقد ساعدت الآثار الإيجابية غير المباشرة للاصلاحات المفروضة على الدول خلال مفاوضات الانضمام إلى المنظمة على تحسين مناخ الإستثمار، ليس للمستثمرين الأجانب فحسب، بل للجهات الفاعلة المحلية أيضًا، مساهمةً بذلك في تحسين مناخ الإستثمار للبلدان وفي تحقيق نمو اقتصادي أعلى.[3]

 

وقد أظهرت دراسة أجراها تانغ وواي (Tang and Wei) (2008)[4] أن عمليات الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية/الجات غالبًا ما ترتبط بارتفاعات هامة في النمو والإستثمار تدوم لمدة خمس سنوات تقريبًا، إلا أن المفاعيل تصلح فقط للدول التي تقوم بإصلاحات بنيوية جذرية. وفي حين أن الإرتفاع في معدلات النمو هو مؤقت وحسب (خمس سنوات بعد الإنضمام)، إلا أن الإقتصاد يصبح أكبر بشكل دائم (بـِ 20%)، نتيجةً لذلك. وتخلص الدراسة أيضًا إلى أن المفاعيل الإيجابية للإلتزامات بالسياسات الاصلاحية تبدو ظاهرة أكثر وسط  الدول ذات الحوكمة الأكثر ضعفًا، بما أن هذه البلدان أجبرت خلال عملية الإنضمام على الإلتزام بمجموعة أكبر من الاصلاحات البنيوية.

 

على سبيل المثال، لم تنضم الصين إلى منظمة التجارة العالمية إلا بعد 15 سنة من المفاوضات وأحرزت عددًا هامًا من الإلتزامات المهمة والمحددة الهدف في مجالات متعلقة بسيادة القانون حول الشفافية والمراجعة القضائية والتنفيذ الموحد للإجراءات القانونية وعدم التمييز في سياستها التجارية. وفي الواقع، لكي يتمّ قبولها كعضو في منظمة التجارة العالمية، كان على الصين القيام بـِ 147 التزامًا مدرجين في التقرير النهائي لفريق العمل المعني بانضمام الصين إلى المنظمة، في حين أن دولا  أخرى كان لديها 29 التزامًا كحد أقصى[5].

 

وبعيدة عن كونها الحل السحري لمكافحة الفساد، تلعب التغييرات الملزمة في السياسات والتي يتمّ فرضها من قبل فريق ثالث موثوق (منظمة التجارة العالمية) دورَ الأداة الفاعلة في تعزيز الحوكمة الرشيدة وفي تشجيع النمو الإقتصادي. إن  الإصلاحات التجاريةتشكل نقطة انطلاق لإطلاق العنان لممارسات إدارة الإصلاح، فهي مجدية على المدى القصير. إلا أنّه يجب تحقيق إصلاحات مؤسساتية فاعلة وهيكلية لضمان الإستدامة. يمكن فقط للمؤسسات الشرعية في كل دولة ومن خلال آليات تؤمن مشاركة جميع الاطراف المحليةأن تساعد على خلق نظام حوكمة ذي معنى يدفع باتجاه اعتمادمعايير أعلى للحوكمة الرشيدة على كافة المستويات داخل الدولة.

 

هذه المدونة كتبت أصلاً باللغة الانكليزية

 

[1]  مروان المعشر، Improving Governance In The Arab World، 13 أيار/مايو 2016، https://www.project-syndicate.org/commentary/improving-governance-in-arab-world-by-marwan-muasher-2016-05، تم سحبها في 18 أيار/مايو 2016.

[2] آريال آرنسون سوزان وأبو حرب رضوان، Does The WTO Help Member States Improve Governance?، World Trade Review، متوفر في CJO 2013 Doi:10.1017/S1474745613000244

[3]  Tang Man-Keung and Wei Shang-Jin, Is Bitter Medicine Good For You? The Economic Consequences of WTO/GATT Accessions، ورقة مقدمة في مؤتمر التجارة، قسم الأبحاث الذي استضافه صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة – 13 نيسان/أبريل 2006.

[4]  Tang Man-Keung and Wei Shang-Jin, The Value of Making Commitments Externally: Evidence from WTO Accessions, NBER Working Paper No. 14582, December 2008, JEL No. F1, F5,O4.

[5]  Tang Man-Keung and Wei Shang-Jin, Is Bitter Medicine Good For You? The Economic Consequences of WTO/GATT Accessions، ورقة مقدمة في مؤتمر التجارة، قسم الأبحاث الذي استضافه صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة – 13 نيسان/أبريل 2006.

 


ريما يونس الخطيب هي رئيس قسم العلاقات الدولية في مديرية الشؤون الخارجية في مصرف لبنان. وهي عضو في الوفود الرسمية اللبنانية للتجارة المتعددة الأطراف والإقليمية والثنائية في مفاوضات تجارة الخدمات، هي تحديدًا كبيرة المفاوضين للخدمات مع منظمة التجارة العالمية (WTO) والاتحاد الأوروبي (EU) والدول العربية. تسعى حاليًا لحيازة دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية.

 


إنّ كافة الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي البوابة العربية للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

ريما يونس الخطيب ريما يونس الخطيب

الأكثر قراءة